آراء

حين يبكي القلب مرتين “حكاية أبٍ في امتحان الفقد والصبر”

جواد النابهي

|
قبل 2 ساعة و 56 دقيقة
A-
A+
facebook
facebook
facebook
A+
A-
facebook
facebook
facebook

لم تكن قد استعادت نفسي توازنها بعد صدمة خبر رحيل الابن الآخر للصديق باسم عبدالقادر القاضي، حتى وقعت عيناي على كلماته القليلة التي دوّنها وهو يرثي أبناءه، بعبارةٍ تختصر وجع العمر كله، كلمات مختصرة لكنها مثقلة بُحزنٍ يفوق الوصف، كأنها كُتبت من وجعٍ خالص، كلمات كُتبت بمداد الحُزن والفقد، كانت كفيلة بأن تفتح جراحًا لا تندمل.

“بكيتُ فرحًا يوم مجيئكم، واليوم أبكي حزنًا على فراقكم” ؛ يا لقسوة هذه العبارة، كيف تختصر رحلة الأب من دمعة الفرح الأولى عند الميلاد، إلى دموع الفقد القاسية عند الرحيل، أي قلبٍ هذا الذي يُطلب منه أن يحتمل كل هذا الألم؟ وأي روحٍ تستطيع أن تصبر على فقد فلذات كبدها تباعًا؟

في العام الماضي، وفي الشهر نفسه، غيّب الموت أحد أبنائه، وكأن الجرح لم يُمنح فرصة للالتئام، حتى عاد الأمس مثقلًا بالقسوة، ليخطف الابن الآخر، ويجدّد الفاجعة، ويضاعف الوجع، ويترك القلب غارقًا في أسئلة لا جواب لها سوى الصبر والتسليم.

فقد الأبناء ليس حزنًا عابرًا، بل امتحانًا بالغ القسوة، لا يُبتلى به إلا من يعلم الله أن في قلبه طاقة على الاحتمال، وإن بدا الانكسار واضحًا في كل حرف، وفي كل صمت؛ ومع ذلك، يظل الرضا بقضاء الله هو السند الأخير، ويبقى الأمل بلقاءٍ آخر هو العزاء الأكبر.

وأمام فاجعة بهذا الحجم، تعجز الكلمات مهما بلغت بلاغتها، فالحُزن هنا ليس لحظة مؤقتة، بل حالة مقيمة في القلب، ترافق التفاصيل الصغيرة، في الأماكن التي كانت تضج بالحياة، وفي الذكريات التي ما زالت حاضرة كأن أصحابها لم يرحلوا.

ما يعيشه الأب اليوم ليس مجرد فقد، بل صبر متواصل، ووجع صامت، ومواجهة يومية مع الغياب، وفي عمق هذه المأساة يتجلى درسٌ قاسٍ عن هشاشة الحياة، وعن حقيقة أننا لا نملك منها شيئًا، وأن ما نحتضنه اليوم قد يغدو ذكرى غدًا.

وسط هذا الصمت الثقيل، يُدرك الإنسان أن الحُزن لا يُقاس بعدد الدموع، بل بعمق الأثر الذي يتركه في الروح، هناك أوجاع لا تُقال، وآلام لا تجد طريقها إلى البوح، فتبقى حبيسة الصدر، ترافق صاحبها في وحدته وبين الناس على حدٍّ سواء.

قد تمضي الأيام، وتتعاقب الليالي، ويظن البعض أن الزمن كفيل بالتخفيف، غير أن بعض الفقد لا يزول، بل نتعلّم فقط كيف نعيش معه، كيف نبتسم رغم الانكسار، وكيف نواصل الطريق وقلوبنا تحمل أسماء غائبة لا تغيب عن الذاكرة.

هكذا يمضي الصابرون، مثقلين بالحزن، لكن مرفوعي الرأس، لأنهم سلّموا أمرهم لله، ورضوا بقضائه، واحتسبوا فَقْدهم أجرًا، فطوبى لقلبٍ تألّم ولم يقسُ، وانكسر ولم يفقد يقينه، وبكى كثيرًا لكنه لم يفقد الرجاء.

سلامٌ على تلك الأرواح الطاهرة، وسلامٌ على قلبٍ أثقله الفقد ولم يُطفئ إيمانه، لعَّل في هذا الصبر رفعةً، وفي هذا الألم أجرًا، وفي هذا الفراق موعدًا بلقاءٍ لا وداع بعده، ويبقى الإيمان نورًا هادئًا ثابتًا، يمدّ القلب بالقوة حين تخذل الأسباب، ويهمس للنفس بأن ما عند الله أبقى، وأن الأرواح التي رحلت لم تغب إلا عن أعيننا، أما مقامها الحقيقي ففي رحمةٍ أوسع من كل هذا الألم.

ويبقى الدعاء الملاذ الأخير، والرجاء بالله العزاء الأصدق، فالله وحده أعلم بعمق الوجع، وهو الأقدر على جبر القلوب المنكسرة، وعلى تعويض الصابرين بما لا عين رأت ولا أذن سمعت.

رحم الله الأبناء رحمةً واسعة، وجعل مثواهم الجنة، وألهم والديهم وأهليهم ومحبيهم الصبر والسلوان، فليس بعد هذا الفقد إلا الدعاء، ولا بعد هذا الألم إلا التسليم، ولا بعد هذا الليل إلا فجرٌ يعلمه الله وحده.


وإنا لله وإنا إليه راجعون ،،،

جميع الحقوق محفوظة © قناة اليمن اليوم الفضائية
جميع الحقوق محفوظة © قناة اليمن اليوم الفضائية